التوعية.. سلاح الدعاة بحرب لبنان علاء النادي على الدعاة دور كبير تجاه الأزمة استدعت الحرب الصهيونية المستعرة على لبنان الحديث عن طبيعة الأدوار والواجبات الملقاة على عاتق أبناء الأمة، بكافة شرائحهم وتكويناتهم، شأنها في ذلك شأن غيرها من النوازل والملمات. ومن البداهة أن هذه الأدوار تتعدد وتتنوع، وهي من الاتساع بما يصعب الإتيان عليها بالتفصيل في صعيد واحد، ومن ثم فإن مجال حديثنا سيقتصر على الدعاة والحركة الدعوية بمعناها الشامل، وما يتوفر داخلها من شخوص ومنابر وهيئات، وأهمية الدور المنوط بهذا المركب الهام، الذي يُعوَّل على مردوده في أن يسدي الكثير والكثير، وأن يثري واقع الأمة بعديد من العطاءات في ظل هذا المنعطف الاستثنائي من تاريخ أمتنا. قبيل أن تمارس آلة الدمار الصهيونية فعلها الهمجي بحق الشعب اللبناني ومقدراته، وبعد أن شرعت الحملة الصهيونية في التكشف والاتساع، وما لحق ذلك من تداعيات وتطورات.. بدا واضحا أن المشهد يحمل في تضاعيفه تحديات أكثر خصوصية، بالنسبة للحالة الدعوية. فقد سبق العدوان الصهيوني مواقف رسمية ونخبوية عربية طعنت بشكل صريح في مقاومة الشعبين الفلسطيني واللبناني، باعتبارها نزعات مغامرة تجلب الأضرار والمخاطر. ولا يمكن قراءة هذه المواقف بمعزل عن الحملات المحمومة للنيل من مشروعية المقاومة، وتفريغ جذر الفعل الجهادي من إسناده العقدي والإنساني بدعوى مجافاته لخصوصيات الواقع المعيش وتطوراته، وابتعاده عن مقتضيات العقلانية والرشادة!!. على صعيد آخر حاول البعض أن يقحم مشهد المقاومة اللبنانية في لجة الشحن الطائفي، ومما يؤسف له أن أشخاصا ومنابر تنتسب للحالة الدعوية ساهمت في إذكاء النعرة الطائفية، إلى حد مطالبة بعضهم بالامتناع عن نصرة حزب الله أو الدعاء له!!. وقد أصابت هذه المواقف الكثيرين من أبناء الأمة بالحيرة؛ فهل تعاظم خطر الاستقطاب الطائفي إلى هذا المستوى؟! وهل ترانا بحاجة إلى إعادة قراءة صريح النص القرآني الذي يحدد بوضوح وبشكل قطعي العدو الأول للذين آمنوا؟!... تساؤلات كثيرة فرضها موقف مَن حاولوا أن يضعوا حزب الله على ميزان الخطر، وتراتبية الخصوم بالنسبة لأعداء الأمة!. استكمالا لدائرة التيه التي يحاول البعض إحكام غلق حلقاتها على أبناء الأمة، فقد عمدوا إلى مغازلة النوازع القُطرية والطائفية؛ في محاولة لتبرير حالة العجز والنكوص عن نصرة الشعب اللبناني، ومن قبله الشعب الفلسطيني. وما من شك في أن هذه المفاهيم التي يراد إشاعتها تتلاقى مع مساعي أولئك الذين يحاولون من خلال حروبهم العدوانية على الأمة تفكيك خرائطها الجغرافية والسياسة والثقافية، وإعادة تركيبها بما يتوافق مع المصالح الصهيوأمريكية. وفي ظل هذه الخريطة الجديدة لا يبقى للأمة مكان في ظل كيانات فسيفسائية تتأسس على قاعدة الانغلاق الطائفي والمذهبي، وفي أحسن الحالات التشرنق القُطري. إزاء كل ما سبق يتضح بجلاء أهمية الدور الذي يمكن أن تنهض به الحالة الدعوية. وتتأسس نقطة الانطلاق في الفاعلية المتوخاة لهذا الدور على ركيزة تكوين وعي صائب ومتكامل، تستطيع من خلاله مكونات الحالة الدعوية التوجه صوب الفضاءات المختلفة بخطاب رشيد ورؤية متماسكة تدور في فلكها الجهود الجمعية وتتضافر. وفي السطور التالية سنتناول بعض ثوابت الوعي الدعوي المرتجى حيال ما يجري.. إدراك حقيقة الصراع من الوهم أن يظن البعض أن حملة العدوان الصهيوني على لبنان، ومن قبلها حملات الاعتداء المتواصل بحق الشعب الفلسطيني سببها الرئيسي هو السعي الصهيوني لاسترداد الأسرى الصهاينة؛ فهذه ليست المرة الأولى التي يؤسر فيها صهاينة، ولم يكن التعاطي في الحالات السابقة يجري على المنوال ذاته من الأفعال الصهيونية. إن الحرب الصهيونية على لبنان وفلسطين -وهي حرب تقوم في إطار من الشراكة الكاملة بين الجانبين الصهيوني والأمريكي- تستهدف تركيع قوى المقاومة وإذلالها، وتجفيف بؤر الممانعة في جسد الأمة؛ حتى تسهل عملية السيطرة عليها، وإعادة صياغة هويتها، بما يتناسب مع مستهدف النهب المستدام لثرواتها، واستلاب حقوقها بشكل كامل ونهائي. وفي هذا السياق علينا أن نلاحظ أن حديث وزيرة الخارجية الأمريكية عن شرق أوسط جديد يتناغم مع ما كان قد صرح به شيمون بيريز في أوائل التسعينيات من القرن الماضي عن الموضوع ذاته، الذي لا مجال فيه لحل الخلافات إلا عبر الحلول السياسية وطاولة الحوار المستديرة!!. باختصار.. يمكن القول بأن الحروب التي تدور رحاها في فلسطين ولبنان والعراق لا تستهدف أقطارًا بعينها، بقدر ما تستهدف إعادة هيكلة واقع الأمة بشكل جذري، تصاب من خلاله هويتها بالسيولة، ومقدراتها بالضياع، ولحمتها بالتفتت والتشرذم، ومقاومتها وممانعتها بالاستخزاء والاستسلام. التنبه لخطر الطائفية منذ الحملات الاستعمارية في أواخر القرن قبل الماضي ومقولة: "فرِّق تسُد" التي صارت من المحفوظات تشكل مدخلا للقوى الطامعة في الاستيلاء على القدرات والإمكانات، ولم يكن العدو الصهيوني استثناء من هذه القاعدة. فعلى مستوى العلاقات البينية بين الدول حاول العدو الصهيوني أن يكرس حالة القطيعة، ويعمق من مستوى الخلافات على قاعدة تصنيف الدول بين: "معتدل" و"متشدد". وعلى صعيد العلاقة بين مكونات القطر الواحد حاول العدو الصهيوني على الدوام تسعير الخلافات، وتأجيج التباينات بين أبناء البيت الواحد. ففي فلسطين تحدث العدو الصهيوني عن سلطة وطنية يدعي إمكانية التفاهم معها، مقابل فصائل مقاومة يسعى لاستئصالها، ويؤلب السلطة عليها، رغم أنه لا يوفر جهدا في تقويض بنيان هذه السلطة، وملاحقة رموزها. وفي لبنان يتم الحديث عن حكومة وجيش، يراد لهما فرض وبسط سيطرتهما على كافة أرجاء لبنان، مقابل مقاومة يتوجب إبعادها وتصفيتها. وفي الحاصل النهائي تطال حملات العدوان كل مكونات الشعب اللبناني دون استثناء؛ فلبنان الوطن والأمة -وليس الطائفة والعرق- يشكل جرحا للاستعلاء الصهيوني. إن ما يجري في لبنان والعراق وفلسطين ينسجم مع المخطط الصهيوأمريكي لتفتيت كينونة الأمة، عبر إشعال نوازع الطائفية والمذهبية والقُطرية. ومن المنطقي أن يشار إلى أن الأمة عاشت طوال القرون الماضية وبداخلها تلك التكوينات، ولكن على قاعدة التصالح والتعايش، والالتقاء في وعاء الأمة الحاضن، وليس على قاعدة الاحتراب والصراع، كما يراد لها أن تكون الآن. تذكرنا رياح الطائفية والمذهبية التي يحاول البعض النفخ فيها بدولة الطوائف والأندلس، التي ذهبت بريح التجربة الحضارية الإسلامية هناك، وقد ظلت عبرة التجربة حاضرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع (عندما تبحث الأبعاض عن نفسها يضيع المجموع). إن الشرق الأوسط الجديد لن يوفر حياة لطائفة أو عرق أو مذهب؛ فالكل فيه يفترض أن يكون عبدًا للسيد الصهيوني وشريكه الأمريكي. على الحركة الدعوية -بخطابها وممارساتها- أن تكون وعاء تجميع لأبناء الأمة، وليست أداة للتفريق، وعليها أن تنهض لتعالج بروح المسئولية والصبر ما يحدث من أزمات ذات روحية طائفية هنا وهناك؛ فقد دلت التجارب بشكل يقيني على أن أسلحة الأعداء مهما كانت ضراوتها وقوة فتكها، وأن مخططاتهم مهما كانت دقة صياغتها وحبكة نسجها لا يمكن أن تؤتي أكلها إلا إذا وجدت القابلية بين ظهرانينا. الوعي بطبيعة المعركة هل تكسر الآلة العسكرية هذه الإرادة؟ من الخطأ أن يظن أحد أن الحرب المستعرة على لبنان ستكون نهاية الصراع، أيًّا ما كانت نتائجها، فإذا تحقق النصر للمقاومة فإن العدو الصهيوني وظهيره الأمريكي سيعاودان التخطيط والتحضير لمعارك مستقبلية على كافة الصعد، يحاولان من خلالها تحقيق المستهدفات التي يصرون عليها. كما أن الانتصار في هذه الجولة من الصراع يجب ألا ينسينا أن هناك بؤرًا أخرى للصراع في فلسطين والعراق وغيرهما من بلدان العالم الإسلامي، وأن هناك حقوقًا تاريخية مستلبة يتوجب الإعداد لاستردادها. وإذا لحق بالمقاومة -لا قدر الله- تراجع فلا بد من التيقن بأن هذا ليس نهاية المطاف؛ فسرعان ما ستلملم الأمة جراحها، وتعاود سيرها في طريق النضال والتحرير، وبأسرع مما يتوقع البعض. والدليل على ذلك ما أصاب الكثيرين من يأس وإحباط بعد دخول الجيش الأمريكي بغداد، وظنوا أنه نهاية المطاف، وأنه لا قيام للأمة ولا ابتعاث لروح الجهاد إلا بعد أمد طويل، لكن روح الصمود والتحدي، ودافع الجهاد والمقاومة لم يدعا لهذه الأوهام والمخاوف فرصة التمدد والاسترخاء. عندما يقول الداهية الصهيوني شيمون بيريز: "إن حرب إسرائيل على لبنان مسألة حياة أو موت"؛ فإنه يدرك بوعي ثاقب -يفتقده الكثيرون من أبناء جلدتنا- مصيرية المعركة، وتأثيراتها المستقبلية الهائلة؛ فالعدو الصهيوني ومن خلفه إدارة المحافظين الجدد لا يخوضان حربًا ضد أنظمة؛ فهم يدركون أن هذه المعركة آلت لصالحهم منذ أمد، إنهم يخوضون معركة ضد الأمة وإرادتها وقواها الحية. فالهزائم الموجعة للجانبين أتت من عمق الأمة وتجلياتها، ممثلة في حركات وقوى خرجت من رحم الحاضنة المجتمعية، وليس تلك النظم التي تمثل نتوءًا فوقيًّا مبتوت الصلة بضمير الأمة وروحها. وعلينا هنا أن نلاحظ هياج الآلة العسكرية الصهيونية والأمريكية ضد المدنيين؛ فتلك الآلة تحاول قطع خطوط التواصل، وجسور التلاحم بين قوى المقاومة ومحيطها الاجتماعي، وهي تعول على كسر هذه القوى حتى تسكن الإرادة الجماهيرية، ويسلس قيادها. ليس من قبيل التشدق بالشعارات أن يقال: إن المعارك الدائرة في فلسطين ولبنان والعراق تؤكد على حقيقة الصراع الدائر بين مشروعين: أحدهما يعول على الآلة، ويريد سحق الإنسان، وتقويض العمران، وآخر يستند إلى الإنسان وقدراته اللامتناهية، ودوره في البناء والعمران، ومن قبله قوة العقيدة والإرادة. إنها معركة كسر عظم بين إرادة إنسانية تتوق إلى التحرر والانعتاق، وتمتلك القدرة على الصمود والتحدي، وترنو إلى المستقبل بعيون يملؤها الأمل والتفاؤل، وبين آلة حرب جهنمية لا تعرف سوى لغة الدمار والاستعلاء والسحق، وتحاول أن تصادر كل أمل في صناعة مستقبل يتلاقى فيه بنو الإنسان على قاعدة التعارف والتعاون. حري بالحركة الدعوية -وهي التي يتاح لها أكثر من غيرها التواصل المستدام مع الجماهير، وتتوفر على مصداقية كبيرة لدى أبناء الأمة- أن تعزز الثقة في النفوس، وأن تحث الجميع على بذل الجهد المستطاع؛ فليس صحيحًا بحال أن كل المجهودات تضيع هدرًا وتذهب سدى؛ فمن خلال المراكمة والاستمرار والوعي بطبيعة الأدوار ومستلزماتها يمكن تحقيق الكثير، والمثال البارز على ذلك يمكن استشفافه بسهولة من الأحداث الجارية؛ فقد طرأ تحول على بعض المواقف الرسمية التي أخذت موقفًا سلبيًّا من المقاومة، بعدما عاينت حجم النقمة الشعبية والالتفاف الجارف حول المقاومة، وثبات المقاومة ذاتها في ميدان البذل والعطاء، ومقارعة الاحتلال. من جملة الأدوار المنوطة بالحركة الدعوية تجلية سمات المشروع الإسلامي في بعده الحضاري؛ فالمقاومة الدائرة في لبنان وفلسطين تؤكد على حقيقة مركزية دور الإنسان في المنظومة الحضارية الإسلامية، ومخزون الطاقة الهائل لدى الأمة ممثلا في هذا الإنسان؛ فحركات المقاومة تغلبت على كل الصعاب، وتسلحت بإرادة الإنسان الذي استطاع بحول الله أن يقلب كل الموازين والمعادلات، ولم يدُر بخلد المجتمع الصهيوني أن يأتي يوم تتمكن فيه قوى فلسطينية -على محدودية قدراتها- من صناعة صواريخ وأسلحة لها هذا التأثير الهائل في ظل بنيان اجتماعي صهيوني لا يبحث إلا عن اللذة والأمن الشخصي، والمصالح الذاتية الضيقة، مقابل نسيج اجتماعي تتكامل نوياته ويسوده التكافل، ويضحي فيه الفرد بنفسه من أجل المجموع، وترخص الحياة الشخصية لأجل حياة المجتمع والأمة. ومن الجدير هنا أن يتم التركيز على تفسير دوافع حركات المقاومة في كل من فلسطين ولبنان لأسر الجنود الصهاينة من أجل إجبار العدو الصهيوني على الإفراج عن الأسرى العرب، فرغم إدراك قوى المقاومة لتبعات هذا العمل، فإن إيمانها بالإنسان وقضية تحريره فاقت حسابات التداعيات والمخاوف والمحاذير؛ فالإنسان لدى هؤلاء قيمة مقدرة، تستأهل التضحية في سبيلها، على عكس بعض الرؤى التي لامت قوى المقاومة على فعلها؛ فهؤلاء ينظرون إلى الإنسان العربي والمسلم على قاعدة الأكواد الرقمية والأعداد. والغريب أن هؤلاء يقدرون حجم الحرص الصهيوني على الإنسان، وهو حرص استعلائي عنصري، وقد بذلوا من الجهود، وأطلقوا من النداءات ما لا يحصى من أجل إطلاق الأسرى الصهاينة، بغية تنفيس الغضب الصهيوني، لكن قضية الأسرى العرب -وهم بالآلاف- لم تكن يومًا جديرة بالعناية والاهتمام لدى هؤلاء. يتعين على الخطاب الدعوي استثمار عطاءات المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق، من أجل الشروع في تدشين مشروع استنهاض، قاعدته الأساسية هي الإنسان صاحب الإرادة الفولاذية الذي أثبت أنه قادر على الإتيان بما يشبه المعجزات، وتحفيز الطاقات العربية والإسلامية للعمل في كل المناحي من أجل المساهمة في وضع لبنات المشروع الحضاري الإسلامي، وأن يعاد الاعتبار إلى مركزية مفاهيم (الأمة، الوحدة، المقاومة)، وأن تتم مجابهة كل نزغات الطائفية والقطرية. إن فصول الصراع ستتوالى وتتابع، ومن المهم أن تلتفت الحركة الدعوية إلى ضرورة المتابعة والتراكم، وأن تفارق نوبات الهبات والفورات.. صحفي وباحث سياسي مصري، يمكنك التواصل معه عبر البريد الإلكتروني التالي: da3wa_do3a@islamonline.net . هذا البريد ليس مخصصا لإرسال الاستشارات ابحث